27. المعمدانيُّون
‘‘بل صادِقينَ في المَحَبَّة، نَنمو في كلِّ شَيءٍ إلَى ذاكَ الَّذي هو الرَّأسُ: المَسيحُ، الَّذي مِنهُ كُلُّ الجَسَدِ مرَكَّبًا مَعًا، ومقتَرِنًا بمؤازَرَةِ كُلِّ مَفصِل، حَسَبَ عَمَل، علَى قياسِ كُلِّ جُزءٍ، يُحَصِّلُ نُموَّ الجَسَدِ لبُنيانِهِ في المَحَبَّة’’.
(أفسس 4: 15-16)
‘‘فإنَّنا نَحنُ عامِلانِ مع الله، وأنتُمْ فلاحَةُ الله، بناءُ الله’’.
(1كورنثوس 3: 9)
تُقاوِمُ الطائفة المعمدانيَّة الأوصافَ البسيطة؛ فالمعمدانيُّون لا يُمكن أن يندرجوا تحت الفئات المرتَّبة والمتأنِّقة لأنَّهم مختلفون من نواحٍ عدَّة، ولا يُمكن تمييزهم بعقيدةٍ واحدةٍ بل بمجموعةٍ من المعتقدات والممارسات تجعل شركة المؤمنين المعمدانيِّين مميَّزة، وتذخر موادُّ مختلفةٌ في ما يخصُّ المعمدانيِّين (تتناوَل هذه المقالة لمحةً موجزة عنهم).
مَنِ المعمدانيُّون؟
المعمدانيُّون شعبٌ متنوِّع.
من الناحية العِرقيَّة، كان معظم المعمدانيِّين من البِيض، لكنَّهم الآن مجموعةٌ بشريَّةٌ متنوِّعة الأشكال والألوان ‘‘الأبيض والأسود والأحمر والأصفر’’.
اقتصاديًّا، يتنوَّعُ المعمدانيُّون بداية من فقراء إلى الأثرياء، ويعيشون في أكواخٍ وقصور، وبعضهم يتلقَّون مَعوناتِ الرعاية الاجتماعيَّة، وبعضهم الآخر رجال أعمال يصيبون نجاحًا لافتًا.
سياسيًّا، يشترك المعمدانيُّون عمليًّا في العمليَّة السياسيَّة بكلِّ أطيافها، ويخدمون في مناصبَ حكوميَّةٍ متعدِّدة، كما يتعرَّضُ بعضُهم للاضطهادِ من بعض الجهات الرسميَّة.
تعليميًّا، فيتنوَّعُ المعمدانيُّون لذا نجد منهم أُمِّيِّين وعلماءَ نابغين أيضًا، ويضمُّ المعمدانيُّون أولئك الذين لم يتلقَّوا تعليمًا رسميًّا، أو مَنِ ارتَقَوا إلى أعلى درجات السلَّم الأكاديميّ.
دينيًّا، تقدِّمُ جماعات المؤمنين من المعمدانيِّين عبادةً رسميَّةً وغير رسميَّة. ويُمكن أن تجدَ مجموعاتٍ معمدانيَّة محافِظة وأُخرى متحرِّرة.
ثقافيًّا، يتنوَّعُ المعمدانيُّون تنوُّعًا كبيرًا في النظام الغذائيِّ والملابس والعادات، ولا يُمكن تمييز المعمدانيِّين بنمطِ الملابس ولا أسلوب قصِّ الشعر. علاوةً على ذلك، يتحدُّث المعمدانيُّون لغاتٍ ولهجاتٍ عدَّة.
أين يوجد المعمدانيُّون؟
يُمكن أن نجدَ المعمدانيِّين في كلِّ مكان، حيث يعيش المعمدانيُّون ويقدِّمون العبادةَ ويخدمون في أكثرِ من مئةِ دولة، ويحتفظ الاتِّحادُ المعمدانيُّ العالميُّ بسجلٍّ كاملّ، لكنْ يصعبُ تحديد الإحصائيَّات الدقيقة عن المعمدانيِّين. وتشير التقديرات إلى أنَّ نحو 50 مليون مؤمن معمدانيٍّ هُم أعضاء في الكنائس المعمدانيَّة حول العالم، ويشاركُ ملايين آخرون ليسوا أعضاء في هذه الكنائس ويستفيدون مِن أنشطتها وتعليمها.
تضمُّ أميركا الشماليَّة أكبرَ تجمُّعٍ للمعمدانيِّين؛ ففي الولايات المتَّحدة، يمثِّلُ المعمدانيُّون أكبرَ طائفةٍ غير كاثوليكيَّة، ويتراوح عددهم ما بين 35 و40 مليونَ مؤمنٍ معمَّدين بالماء، وينتظمون في المئات من الجمعيَّات التابعة للكنائس والطوائف والمجامع والاتِّحادات. أمَّا ثاني أكبر تجمُّع للمعمدانيِّين فموجودٌ في إفريقيا حيث يقيمُ نحو 7 ملايين معمدانيّ، ويعيش في نيجيريا وحدَها أكثر من مليونَين، وهناك نحو مليونَي معمدانيٍّ أيضًا في جمهورية الكونغو الديمقراطيَّة.
يظهر ثالث أكبر تجمُّع للمعمدانيِّين في آسيا التي تضمُّ أكثر من أربعة ملايين ونصف مليون عضو، وتضمُّ الهند أكبرَ عددٍ من المعمدانيِّين في آسيا بنحو مليونَي عضو. وتُقيم مجموعاتٌ كبيرةٌ من المعمدانيِّين في كوريا وإندونيسيا والفلبِّين. وتحتلُّ أميركا الجنوبيَّة المركز الرابع في عدد المعمدانيِّين، إذ تضمُّ نحو مليونًا ونصف مليون عضو، وأكبر عددٍ منهم في البرازيل حيث يتجمَّع أكثر من مليون معمدانيٍّ موزَّعين على نحو 8000 كنيسة.
تعيشُ مجموعاتٌ أصغرُ في جُزر الكاريبي وأميركا والوسطى والشرق الأوسط وأوروبَّا، حيث يعيشُ أكبرُ عددٍ مِن المعمدانيِّين في المملكة المتَّحدة وجمهوريات الاتِّحاد السوفييتيِّ السابق.
تنمو الطائفة المعمدانيَّة حول العالم، ويزدادُ عدد المعمدانيِّين في إفريقيا، ويُعدُّ الأسرع نموًّا، ثمَّ تأتي آسيا في المرتبة الثانية، في حين باتَتْ أوروبَّا وأميركا الشماليَّة الأبطأ نموًّا بعد ما كانت الزيادة المعمدانيَّة هناك هي الأعلى.
ما إسهاماتُ المعمدانيِّين؟
المعمدانيُّون ليسوا كاملين، لكنَّهم ما يزالون يقدِّمون إسهاماتٍ مفيدةً وكثيرة. ومن الناحية العمليَّة، كلُّ جانبٍ من الحياة البشريَّة استفادَ من هذه الإسهامات.
بواسطة الكرازة والإرساليَّات، استخدمَ الله المعمدانيِّين للمساعدة في تغيير حياة الملايين من الناس عندما قَبِلوا الإيمانَ المخلِّص بالربِّ يسوع المسيح.
يسعى المعمدانيُّون إلى التعامل مع عددٍ كبيرٍ من الإساءات البشريَّة ومعالجتها، سواء كانت جسديَّةً أم عقليَّةً أم عاطفيَّة أم اجتماعيَّة أم روحيَّة. وتعمل المستشفيَّات والعيادات المعمدانيَّة ومنظَّمات رعاية الأطفال وكبار السِّنِّ ومجموعات إغاثة الكوارث ومراكز المشورة وكِيانات أُخرى عدَّة على تضميد الأجساد المتعَبة، والأرواح المحطَّمة، واسترداد الحياة المدمَّرة، والإسهام في تمام الصحَّة العامَّة للأشخاص من مختلف الأعمار والأجناس والأوضاع الحياتيَّة.
يطبِّقُ المعمدانيُّون إنجيلَ المسيح بوسائلَ مختلفةٍ لمعالَجة أسقامِ المجتمع وأمراضه، كالفقر والعنصريَّة والظلم والجريمة والجوع والفساد والإساءة إلى الأطفال والنساء وإدمان المخدِّرات والمثليَّة الجنسيَّة. ويوفِّرُ المعمدانيُّون فُرصًا تعليميَّةً لعددٍ كبيرٍ من الناس، وهم يمنحون المتعلِّمين فرصةَ اكتسابِ المعرفة بتَوفير عددٍ ضخمٍ من الكتب والدوريَّات والمصادر الإلكترونيَّة، كما يوفِّرون أيضًا دراساتٍ أكاديميَّة رسميَّة برعاية المدارس والجامعات وكلِّيَّات اللاهوت.
لعلَّ الإسهامَ المعمدانيَّ الأكثرَ تميُّزًا هو الحرِّيَّة الدينيَّة، ونتائجها المنطقيَّة والفصل بين الكنيسة والدولة. ويعترفُ المؤرِّخون العلمانيُّون والدينيُّون بالمعمدانيِّين بصفتهم قادةً في النضال مِن أجل الحرِّيَّة الدينيَّة، هو نضالٌ لا يزال مستمرًّا.
لماذا يفعل المعمدانيُّون كلَّ هذه الأمور؟
لماذا نما عدد المعمدانيِّين من مجرَّد مجموعةٍ صغيرةٍ من المؤمنين يُعانون جرَّاء الملاحَقة والاضطهاد على يد المنظَّمات الدينيَّة والرسميَّة، إلى واحدةٍ من أكبر الطوائف في العالم؟ لماذا ضحَّى المعمدانيُّون براحتهم وممتلكاتهم، بل بحياتهم أيضًا، من أجل خدمة الآخرين وتوفير الحرِّيَّة الدينيَّة للجميع؟
رغمَ عدم وجود إجابةٍ بسيطةٍ عن هذه الأسئلة، فإنَّ السببَ الواضحَ هو تأصُّل العمل المعمدانيِّ في المعتقدات المعمدانيَّة الأساسيَّة التي تستند إلى الكتاب المقدَّس؛ فالمعمدانيُّون متنوِّعون تنوُّعًا كبيرًا، لكنَّهم يؤمنون بعقائدَ وممارساتٍ أساسيَّة محدَّدة ومشترَكة.
لا يوجَدُ نظامُ إدارةٍ واحدٌ أو عقيدةٌ واحدةٌ يميِّزُ المعمدانيِّين ويُحدد هُوِيَّتهم. لكنْ إذا وَضَعْنا في الحسبان كلَّ المعتقدات والممارسات، فهي ستجعلُ المعمدانيِّين طائفةً مميَّزة. يؤمنُ جميع المؤمنين ببعض هذه القناعات كالإيمان بالله، في حين تشترك بعض الطوائف المحدَّدة في الإيمان ببعض أنظمة الإدارة كالإدارة الجماعيَّة للكنيسة. غير أنَّ المجموعةَ الكاملةَ من المعتقدات والأنظمة الأساسيَّة للإدارة والممارَسات التي يتبنَّاها المعمدانيُّون هي ما تجعلُهم شركةً مميَّزةً من المؤمنين.
تشملُ العقائدُ الأساسيَّة ما يلي: ربوبيَّة يسوع المسيح، والكتاب المقدَّس بوصفه السُّلطةَ الوحيدة المكتوبة للإيمان والممارسة، والمقدرة الممنوحة للنَّفس، والخلاص باستجابةٍ طوعيَّةٍ تُظهِرُ التوبةَ وقبول النعمة الإلهيَّة والإيمان بعَطِيَّة الابن، وكهنوت جميع المؤمنين، ومعموديَّة المؤمنين بالتغطيس في الماء وحده، واستمرار مَنْح عضويَّة الكنيسة.
وتشملُ أيضًا الأنظمة المعمدانيَّة الأساسيَّة للإدارة ما يلي: الإدارةُ الجماعيَّة للكنيسة، والاستقلال الذاتيُّ للكنائس والكِيانات المعمدانيَّة، وفريضتا المعموديَّة والعشاء الربَّانيّ، ووظيفتا الرُّعاة والشمامسة في الكنيسة، والدعمُ الماليُّ بالإسهام الطوعيِّ بالعشور والتقدِمات (وليس بأموال الضرائب)، وأساليب العبادة المختارة بحرِّيَّةٍ في خضوعٍ لربوبيَّة المسيح.
تشملُ الممارَساتُ والتأكيدات المعمدانيَّة الأساسيَّة ما يلي: الخدمة، والكرازة والإرساليَّات، وتطبيق الإنجيل في كلِّ جوانب الحياة، والتعليم المسيحيّ.
يُعدُّ التزام المعمدانيِّين تُجاهَ الحرِّيَّة الدينيَّة أساسَ كلِّ هذه المذاهب والأنظمة السياسيَّة للإدارة والممارسات. ويتخلَّل هذه القناعات العملُ الطوعيُّ دون إجبارٍ أو إكراه؛ فالمعمدانيُّون يُناضلون مِن أجل كنيسةٍ حُرَّةٍ في دولةٍ حرَّة.
الخلاصة
قصَّةُ المعمدانيِّين مثيرةٌ وملآنةٌ بالحيويَّة والنُّصرة والهزيمة والتضحية والنجاح والاتِّفاق والنزاع. ورغم أنَّ المعمدانيِّين يختلفون في نواحٍ عدَّة، فإنَّهم يتَّفقون عمومًا في المعتقدات والممارسات الأساسيَّة. وما دامَ المعمدانيُّون متمسِّكين بهذه القناعات الأساسيَّة، فسوف يستمرُّون وينمون ويزدهرون أيضًا.
‘‘من المؤكَّد أنَّ قصَّة المعمدانيِّين المدهشة تستحقُّ أن نرويَها’’.
كينيث سكوت لاتوريت
أستاذ الإرساليَّات والمسيحيَّة العالميَّة السابق في جامعة ييل